كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الرابع: أنها متصلة بقولِه: {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ} [غافر: 16]. وعلى هذين الوجهين فيُحْتمل أَنْ تكونَ جاريةً مَجْرَى العلةِ، وأنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال.
وخائنةُ الأَعْيُن فيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ كالعافيةِ، أي: يَعْلَمُ خيانةَ الأعين.
والثاني: أنها صفةٌ على بابِها، وهو مِنْ بابِ إضافةِ الصفةِ للموصوفِ، والأصلُ: الأعين الخائنة، كقوله:
وإن سَقَيْتِ كِرامَ الناسِ فاسْقِينا

وقد رَدَّه الزمخشريُّ وقال: لا يَحْسُنُ أَنْ يُراد: الخائنة من الأعين؛ لأنَّ قولَه: {وَمَا تُخْفِي الصدور} لا يُساعِدُ عليه يعني أنه لا يناسِبُ أن يقابلَ المعنى إلاَّ بالمعنى. وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلِ أَنْ يقولَ: لا نُسَلِّمُ أنَّ ما في {وَمَا تُخْفِي الصدور} مصدريةٌ حتى يَلْزَمَ ما ذكره، بل يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي، وهو عبارةٌ عن نفس ذلك الشيءِ المَخْفِيِّ، فيكونُ قد قابَلَ الاسمَ غيرَ المصدرِ بمثلهِ.
{وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)}.
قوله: {والذين يَدْعُونَ} قرأ نافع وهشام {تَدْعُون} بالخطاب للمشركين، والباقون بالغَيْبة إخبارًا عنهم بذلك.
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)}.
قوله: {فَيَنظُرُواْ} يجوز أَنْ يكونَ منصوبًا في جواب الاستفهام، وأَنْ يكونَ مجزومًا نَسَقًا على ما قبله كقولِه:
ألم تَسْأَلْ فتُخْبِرْكَ الرُّسومُ

رواه بعضُهم بالجزمِ والنصب.
قوله: {منهم قوةً} قرأ ابنُ عامرٍ {منكم} على سبيلِ الالتفاتِ، والباقون بضميرِ الغَيْبة جَرْيًا على ما سَبَقَ من الضمائرِ الغائبةِ.
قوله: {وآثارًا} عطفٌ على {قوةً} وهو في قوة قولِه: {يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتًا آمِنِينَ} [الحجر: 82]، وجعله الزمخشريُّ منصوبًا بمقدر قال: أو أراد: وأكثرَ آثارًا كقولِه:
قد غدا مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحا

يعني: ومُعْتَقِلًا رمحًا. ولا حاجةَ إلى هذا مع الاستغناء عنه.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)}.
قوله: {أَوْ أَن} قرأ الكوفيون {أو أَنْ} بأو التي للإِبهام والباقون بواو النسق على تَسَلُّط الحرفِ على التبديل وظهور الفساد معًا. وقرأ نافعٌ وأبو عمروٍ وحفصٌ {يُظْهِرَ} بضم الياءِ وكسرِ الهاء مِنْ أَظْهر، وفاعلُه ضميرُ موسى عليه السلام، {الفسادَ} نصبًا على المفعول به. والباقون بفتح الياء والهاء مِنْ ظهر، {الفسادُ} رفعًا بالفاعلية وزيدُ بن علي {يُظْهَرَ} مبنيًّا للمفعول، {الفسادُ} مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعل. ومجاهد {يَظَّهَّرَ} بتشديد الظاء والهاء، وأصلها يَتَظَهَّر مِنْ تَظَهَّر بتشديد الهاء فأدغم التاء في الظاء. و{الفسادُ} رفعٌ على الفاعلية. وفتح ابن كثير ياءَ {ذروني أَقْتُلْ موسى} وسَكَّنها الباقون.
{وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)}.
قوله: {عُذْتُ} أدغم أبو عمروٍ والأخَوان، وأظهروا الذال مع التاء، والباقون بالإِظهار فقط. و{لا يُؤْمِنُ} صفةٌ لمتكبِّر.
{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)}.
قوله: {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} يُحتمل أَنْ يكونَ متعلِّقًا ب {يَكْتُمُ} بعده أي: يكتمه مِنْ آلِ فرعون. والثاني:- وهو الظاهرُ- أنَّه متعلق بمحذوفٍ صفةً لرجل. وجاء هنا على أحسنِ ترتيبٍ: حيث قَدَّمَ المفردَ ثم ما يَقْرُبُ منه وهو حرفُ الجرِّ، ثم الجملةَ. وقد تقدم إيضاحُ هذه المسألةِ في المائدةِ وغيرِها. ويترتَّبُ على الوجهين: هل كان هذا الرجلُ مِنْ قَرابَةِ فرعونَ؟ فعلى الأولِ لا دليلَ فيه، وعلى الثاني فيه دليلٌ. وقد رَدَّ بعضُهم الأولَ: بأنه لا يُقال: كَتَمْتُ مِنْ فلانٍ كذا، إنما يقال: كَتَمْتُ فلانًا كذا، فيتعدَّى لاثنين بنفسِه. قال تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثًا} [النساء: 42]. وقال الشاعر:
كَتَمْتُكَ هَمًَّا بالجَمومَيْنِ ساهِرًا ** وهَمَّيْن هَمًَّا مُسْتَكِنًَّا وظاهرًا

أحاديثَ نَفْسٍ تشتكي ما برَبِّها ** ووِرْدَ هُمومٍ لَنْ يَجِدْنَ مَصادِرا

أي: كتمتُك أحاديثَ نفسٍ وهَمَّيْن، فقدَّم المعطوفَ على المعطوفِ عليه، ومحلُّه الشعرُ.
قوله: {أَن يَقُولَ رَبِّيَ} أي: كراهةَ أَنْ يقولَ أو لأَنْ يقولَ. والعامَّةُ على ضَمِّ عين {رَجُل} وهي الفصحى. والأعمش وعبد الوارث على تسكينها، وهي لغةُ تميمٍ ونجد. وقال الزمخشري: ولك أَنْ تُقَدِّرَ مضافًا محذوفًا أي: وقت أَنْ يقولَ. والمعنى: أتقتلونه ساعةَ سَمِعْتم منه هذا القولَ من غير رَوِيَّةٍ ولا فِكْرٍ. وهذا الذي أجازه رَدَّه الشيخ: بأنَّ تقديرَ هذا الوقتِ لا يجوزُ إلاَّ مع المصدرِ المُصَرَّحِ به تقول: جِئْتُكَ صياحَ الدِّيْكِ أي: وقتَ صِياحِه، ولو قلت: أجيْئُك أنْ صاحَ الديكُ، أو أَنْ يصيحَ، لم يَصِحَّ. نصَّ عليه النحويون.
قوله: {وقد جاءَكم} جملةٌ حالية يجوز أَنْ تكونَ من المفعول. فإنْ قيلَ: هو نكرةٌ.
فالجوابُ: أنه في حيِّزِ الاستفهام وكلُّ ما سَوَّغ الابتداءَ بالنكرةِ سَوَّغ انتصابَ الحال عنها. ويجوز أَنْ يكونَ حالًا من الفاعل.
قوله: {بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ} {بعض} على بابِها، وإنما قال ذلك ليهضِمَ موسى عليه السلام بعضَ حقه في ظاهرِ الكلام، فيُرِيَهم أنه ليس بكلامِ مَنْ أعطاه حقه وافيًا فَضْلًا أَنْ يتعصَّبَ له، قاله الزمخشري. وهذا أَحسنُ مِنْ قولِ غيرِه: إنَّها بمعنى كل، وأنشدوا قولَ لبيد:
تَرَّاكُ أَمْكنةٍ إذا لم يَرْضَها ** أو يَرْتَبِطْ بعضُ النفوسِ حِمامُها

وأنشدوا قولَ عمرو بن شُيَيْم:
قد يُدْرِكُ المتأنِّي بعضَ حاجتِه ** وقد يكونُ مع المستعجِلِ الزَّلَلُ

وقول الآخر:
إنَّ الأمورَ إذا الأحداثُ دَبَّرها ** دون الشيوخِ ترى في بعضِها خَلَلا

ولا أدري كيف فَهِموا الكلَّ من البيتين الأخيرين؟ وأَمَّا الأولُ ففيه بعضُ دليلٍ؛ لأنَّ الموتَ يأتي على الكلِّ. ولَمَّا حكى هذا الزمخشريُّ عن أبي عبيدة، وأنشد عنه بيتَ لبيدٍ قال: إن صَحَّتِ الروايةُ عنه فقد حَقَّ فيه قولُ المازني في مسألة العَلْقى: كان أَجْفَى مِنْ أن يفقهَ ما أقولُ له.
قلتُ: ومسألةُ المازني معه أنَّ أبا عبيدةَ قال للمازني: ما أكذبَ النحويين!! يقولون: هاءُ التأنيثِ لا تدخل على ألفِ التأنيثِ وأن الألفَ في عَلْقَى مُلْحقة. قال: فقلت له: وما أنكرْتَ من ذلك؟ فقال: سَمِعْتُ رؤبةَ يُنْشِد:
يَنْحَطُّ في عَلْقَى وفي مُكُوْرِ

فلم يُنَوِّنْها.
فقلتُ: ما واحدُ عَلْقى؟ قال: عَلْقاةٌ. قال المازني: فامتنعْتُ ولم أُفَسِّرْ له لأنه كان أَغْلظَ مِنْ أَنْ يفهمَ مثلَ هذا قلت: وإنما استغلظَه المازنيُّ؛ لأنَّ الألفَ التي للإِلحاق تَدْخُل عليها تاءُ التأنيثِ دالةً على الوَحْدة فيقال: أَرْطى وأَرْطاة، وإنما الممتنعُ دخولُها على ألفِ التأنيثِ نحو: دَعْوى وصَرْعى. وأمَّا عدمُ تنوين عَلْقَى فلأنَّه سَمَّى بها شيئًا بعينِه وألفُ الإِلحاقِ المقصورةُ حالَ العلميَّة تَجْري مَجْرى تاءِ التأنيث فيمتنعُ الاسمُ الذي هي فيه، كما تمتنعُ فاطمة. وتَنْصَرِفُ قائمة.
{يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)}.
قوله: {ظَاهِرِينَ} حالٌ من الضميرِ في {لكم} والعاملُ فيها وفي {اليومَ} ما تَعَلَّقَ به {لكم}.
قوله: {ما أُرِيْكُمْ} هي مِنْ رؤيةِ الاعتقادِ، فتتعدَّى لمفعولَيْن، ثانيهما {إِلاَّ مَآ أرى}.
قوله: {الرَّشادِ} العامَّةُ على تخفيفِ الشينِ مصدرَ رشَدَ يَرْشُدُ. وقرأ معاذ بن جبل بتشديدِها، وخَرَّجها أبو الفتح وغيرُه على أنه صفةُ مبالغةٍ نحو: ضَرَب فهو ضرَّاب، وقد قال النحاس: هو لحنٌ، وتَوَهَّمه من الرباعي يعني أَرْشد. ورُدَّ على النحاس قولُه: بأنه يُحْتمل أَنْ يكونَ مِنْ رَشَدَ الثلاثي، وهو الظاهرُ. وقد جاء فَعَّال أيضًا مِنْ أَفْعَل وإنْ كان لا يَنْقاسُ. قالوا: أَدْرَك فهو دَرَّاك وأَجْبَرَ فهو جَبَّار، وأَقْصَر فهو قَصَّار، وأَسْأَر فهو سَآَّر، ويَدُلُّ على أنه صفةُ مبالغةٍ أنَّ معاذًا كان يُفَسِّرها بسبيل الله.
قال ابنُ عطية: ويَبْعُدُ عندي على معاذ- رضي الله عنه- وهل كان فرعونُ يَدَّعي إلاَّ الإِلهيَّة؟ ويَقْلَقُ بناءُ اللفظِ على هذا التركيبِ. قلت: يعني ابنُ عطية أنه كيف يقول فرعونُ ذلك، فيُقِرُّ بأنَّ ثَمَّ مَنْ يهدي إلى الرشادِ غيرُه، مع أنه يَدَّعي أنه إلهٌ؟ وهذا الذي عَزاه ابنُ عطية والزمخشري وابن جُبارة صاحب الكامل إلى معاذ بن جبل من القراءة المذكورة ليس في {الرشاد} الذي هو في كلامِ فرعونَ كما توهَّموا، وإنما هو في {الرشاد} الثاني الذي مِنْ قول المؤمنِ بعد ذلك. ويَدُلُّ على ذلك ما قاله أبو الفضل الرازي في كتابه اللوامح: معاذ بن جبل {سبيل الرشاد} الحرف الثاني بالتشديد، وكذلك الحسنُ، وهو سبيلُ اللَّهِ تعالى الذي أوضحه لعبادِه، كذلك فسَّره معاذ، وهو منقولٌ مِنْ مُرْشِد كدَرَّاك مِنْ مُدْرِك وجَبَّار مِنْ مُجْبر، وقَصَّار مِنْ مُقْصِر عن الأمر، ولها نظائرُ معدودةٌ. فأمَّا قَصَّار الثوب مِنْ قَصَر الثوبَ قِصارةً فعلى هذا يزولُ إشكالُ ابنِ عطية المتقدمُ، وتتضح القراءةُ والتفسيرُ.
وقال أبو البقاء: وهو الذي يَكْثُر منه الإِرشادُ أو الرُّشْدُ يعني يُحْتمل أنه مِنْ أرشدَ الرباعيِّ أو رَشَد الثلاثي. والأَوْلَى أَنْ يكونَ من الثلاثيِّ لِما عَرَفْتَ أنه يَنْقاسُ دونَ الأول.
{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)}.
قوله: {مِثْلَ دَأْبِ} {مثل} يجوزُ أَنْ يكونَ بدلًا، وأَنْ يكون عطفَ بيانٍ.
{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)}.
قوله: {يَوْمَ التناد} قد تقدَّم الخلافُ في يائِه: كيف تُحذف وتُثْبَت؟ وهو مصدرُ تَنادَى نحو: تقاتَلَ تقاتُلًا. والأصلُ: تَنادُيًا بضم الدالِ ولكنهم كسروها لتصِحَّ الياءُ. وقرأت طائفةٌ بسكون الدالِ إجراءً للوصل مُجْرى الوقفِ. وتنادَى القومُ أي: نادى بعضُهم بعضًا. قال:
تنادَوْا فقالوا أَرْدَتِ الخيلُ فارسًا ** فقُلْنا عُبَيْدُ الله ذلكمُ الرَّدِي

وقال آخر:
تنادَوْا بالرحيلِ غَدًا ** وفي تَرْحالِهم نَفْسي

وقرأ ابن عباس والضحاك والكلبي وأبو صالح وابن مقسم والزعفراني في آخرين بتشديدِها، مصدرُ تَنادَّ مِنْ نَدَّ البعيرُ إذا هَرَبَ ونَفَرَ، وهو في معنى قولِه تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} [عبس: 34] الآية. وفي الحديث: «إن للناسِ جَوْلةً يندُّون، يظنُّون أنهم يَجِدُون مهربًا» وقال أمية بن أبي الصلت:
وبَثَّ الخَلْقَ فيها إذ دَحاها ** فهُمْ سُكَّانُها حتى التنادي

{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)}.
قوله: {يَوْمَ تُوَلُّونَ} يجوزُ أَنْ يكونَ بدلًا من {يوم التَّناد} وأن يكونَ منصوبًا بإضمارِ أعني. ولا يجوزُ أَنْ يُعْطَفَ عطفَ بيان لأنه نكرةٌ، وما قبله معرفةٌ. وقد تقدَّم لك في قوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] أنَّ الزمخشريَّ جعله بيانًا مع تخالُفِهما تعريفًا وتنكيرًا، وهو عكسُ ما نحن فيه، فإن الذي نحن فيه الثاني نكرةٌ، والأولُ معرفةٌ.
قوله: {مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} يجوزُ في {مِنْ عاصِمٍ} أَنْ يكونَ فاعلًا بالجارِّ لاعتمادِه على النفي، وأَنْ يكون مبتدأ، و مِنْ مزيدةٌ على كلا التقديرَيْن. و{من الله} متعلقٌ ب {عاصِم}.
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)}.
قوله: {حتى إِذَا} غايةٌ لقولِه: {فما زِلْتُمْ}. وقُرئ {ألَن يَبْعَثَ الله} بإدخالِ همزةِ التقرير، يُقرِّر بعضُهم بعضًا.
قوله: {كذلك} أي: الأمر كذلك.
{ويُضِلُّ الله} مستأنفٌ أو نعتُ مصدرٍ أي: مثلَ إضلالِ اللَّهِ إياكم- حين لم يَقْبَلوا مِنْ يوسفَ عليه السلام- يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هو مُسْرِفٌ.
{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)}.
قوله: {الذين يُجَادِلُونَ} يجوز فيه عشرةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ قولِه: {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} وإنما جُمِع اعتبارًا بمعنى مَنْ. الثاني: أَنْ يكونَ بيانًا له. الثالث: أَنْ يكونَ صفةً له. وجُمِع على معنى مَنْ أيضًا. الرابع: أَنْ ينتصِبَ بإضمار أعني. الخامس: أَنْ يرتفعَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هم الذين. السادس: أَنْ يرتفعَ مبتدًا، خبرُه {يَطْبَعُ اللَّهُ}. و{كذلك} خبرُ مبتدأ مضمرٍ أيضًا، أي: الأمرُ كذلك. والعائدُ من الجملةِ وهي {يَطْبَعُ} على المبتدأ محذوفٌ، أي: على كلِّ قلبِ متكبِّرٍ منهم. السابع: أنْ يكونَ مبتدًا، والخبر {كَبُرَ مَقْتًا} ولكنْ لابد مِنْ حَذْفِ مُضاف ليعودَ الضميرُ مِنْ {كَبُرَ} عليه. والتقديرُ: حالُ الذين يُجادلون كَبُرَ مَقتًا ويكون {مَقْتًا} تمييزًا، وهو مَنْقولٌ مِنَ الفاعليةِ إذ التقديرُ: كَبُرَ مَقْتُ حالِهم أي: حالِ المجادلين. الثامن: أَنْ يكونَ {الذين} مبتدًا أيضًا، ولكن لا يُقَدَّرُ حَذْفُ مضافٍ، ويكونُ فاعلُ {كَبُرَ} ضميرًا عائدًا على جدالِهم المفهومِ من قوله: {ما يُجادِلُ}. والتقدير: كَبُرَ جِدالُهم مَقْتًا. و{مَقْتًا} على ما تقدَّمَ أي: كَبُرَ مَقْتُ جدالِهم. التاسع: أَنْ يكونَ {الذين} مبتدًا أيضًا، والخبرُ {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ}. قاله الزمخشري: ورَدَّه الشيخ: بأنَّ فيه تفكيكَ الكلامِ بعضِه من بعضٍ؛ لأنَّ الظاهرَ تعلُّقُ {بغير سُلْطان} ب {يُجادلون} ولا يُتَعَقَّلُ جَعْلُه خبرًا ل الذين لأنه جارٌّ ومجرورٌ، فيصيرُ التقديرُ: الذين يُجادلون كائنون أو مستقرون بغيرِ سلطان، أي: في غير سلطان؛ لأنَّ الباءَ إذ ذاك ظرفيةٌ خبرٌ عن الجُثَث. العاشر: أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ أي: مُعانِدون ونحوه، قاله أبو البقاء.
قوله: {كَبُرَ مَقْتًا} يُحْتمل أَنْ يُرادَ به التعجبُ والاستعظامُ، وأَنْ يُرادَ به الذمُّ كبِئْس؛ وذلك أنه يجوزُ أَنْ يُبْنَى فَعُل بضمِّ العَيْن مِمَّا يجوزُ التعجُّبُ منه، ويَجْري مَجْرى نِعْم وبئس في جميعِ الأحكامِ. وفي فاعلِه ستةُ أوجهٍ، الأول: أنه ضميرٌ عائدٌ على حالِ المضافِ إلى الذين، كما تقدَّم تقريرُه.
الثاني: أنه ضميرٌ يعودُ على جدالِهم المفهوم مِنْ {يُجادلون} كما تقدَّم أيضًا. الثالث: أنه الكافُ في {كذلك}. قال الزمخشري: وفاعلُ {كَبُرَ} قولُه: {كذلك} أي: كَبُرَ مَقْتًا مثلُ ذلك الجدالِ، ويَطْبع اللَّهُ كلامٌ مستأنفٌ ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ فيه تَفْكيكًا للكلامِ وارتكابَ مذهبٍ ليس بصحيحٍ. أمَّا التفكيكُ فلأنَّ ما جاء في القرآن مِنْ {كذلك نَطْبَعُ} أو {يَطْبع} إنما جاء مربوطًا بعضُه ببعض فكذلك هذا، وأمَّا ارتكابُ مذهبٍ غيرِ صحيح فإنه جَعَل الكافَ اسمًا ولا تكونُ اسمًا إلاَّ في ضرورةٍ، خلافًا للأخفش.